سمعت رصاص الشوارع ولم تدرك أنها في واقع خطر ، فأسرعت بلباسها وأخذت كتبها وفتحت الصفحة التاسعة بعد الخمسين من كتاب اللغة العربية كي تتأكد من معلومة شكت بها في منامها ، ولكنها عزمت على الخروج من البيت ، رغم تحذيرات أمها لها بأن تبتعد عن مرمى النيران ، 'فالمجانين ' في الخارج يطلقون الرصاص بعشوائية بالغة.
قلب أم مريم لم يسكت ، ففتحت نوافذ البيت وأجلست أولادها الصغار في ركن شديد لتحميهم من تراشق النيران بين المتحاربين ، وهي لا تعلم ماذا حصل في غزة كي تحترق بأولادها هكذا .
السيدة أمنة وافقت أن تتكلم عن ذاك اليوم الحزين في حياتها لــ(أمد) وفتحت قلبها المسكين على أيام كلها مرارة ، فقالت:' خرجت مريم لتقدم إمتحاناتها في الثانوية العامة ، وبعد أن نجحت بالوصول إلى مدرستها ، اتصلت بي وقالت أنا بخير يا أمي ، كانت كلماتها الأخيرة لي .. وشعرت بأنها مرهقة جدا من مشوارها إلى المدرسة التي لم تبعد كثيرا عن البيت ، ولكن كل خطوة كانت حفرة من النار ، ومريم التي لم ترجع الى بيتها بعد أن قدمت امتحانها باللغة العربية ، فتحت عزاءها السريع تحت وابل النيران والحقد الأسود'.
تضيف أم مريم :' تأخرت يومها كثيراً ولم اسمع من أحد عنها غير أن زوجة أخي سمعت اسمها من أحد الاذاعات المحلية ،والنبأ الغير متوقع أن مريم اصيبت برصاصة في رأسها وهي تخرج من بوابة المدرسة'
مريم لم تكن ذاهبة إلى موتها ، بل كانت تفتح للحياة يديها ، وتعبت ليالي الاستعداد لامتحاناتها من أجل الحصول على شهادة الثانوية العامة ودخولها الجامعة ، فقد كانت تحلم أن تكون محامية ناجحة ، ولكن ذلك اليوم كان يومها الأخير ، والذين أشعلوا النار في المدينة لم يفتشوا في وسادة مريم عن حشوها ، والحشو كان أحلام بريئة لا تعرف معنى الاختلاف حتى تدرك معاني القتل المجاني.
تقول السيدة أمنة (لأمد) عندما وصلني الخبر صدقت قلبي وانهرت من طولي على باب المطبخ ، وغبت عن الوعي ، ولحظة يقظتي وجدت مجموعة من النساء حولي يبكين على مريم التي غادرت برصاصة قاتلة ، ويبكين عليَّ ، ولم أجد عندها أحمد أبني الذي خرج ليلاً وودعني قائلاً: سامحيني يا أمي ' فأحمد ضابط في أحد الأجهزة الأمنية ، رقيق جدا وهاديء ولا يحب المشاكل ، وقلبي الذي توتر على مريم بعض الشيئ ، رفع توتره الى أقصى حدوده على أحمد ، لأنه في عمله والأحداث اشتعلت وهو في مقره ، ولكنه كان قبل الصبح قد اتصل بي وقال بأنه خرج الى بيت أحد أصحابه وهو بخير فأخذني الاطمئنان عليه ، ومع خروج مريم عاد القلق ليعاقبني لأنني سمحت لها بالخروج في ظل التوتر الموجود.
مريم ماتت من غير ذنب اقترفته ، فهي لم تنتمي لفصيل ولا تعرف عن السياسة غير نشرة الأخبار ، ولم تهتم بما يحصل في البلد بين المتقاتلين ، كل همها كان في مستقبلها وحياتها ، وعبادتها فهي جادة جدا ولم تكن تحب الخروج عن الأدب ولو بالمزاح أمثال ابناء جيلها'.
تواصل الأم الثكلى:'ماتت مريم ولم تترك لي بعد عام على غيابها غير ألبوم صور وضحكات جامدة وفيلم صغير يوم زفاف أخيها أحمد ، هذا ما تركته ، والذين جعلوها ذكرى في حياتي وأشعلوا النار في قلبي بعد أن حرقوا المدينة وقتلوا ابنتي لم يعترفوا بعد بقتلها فكل طرف يتهم خصمه بأنه هو السبب ، ولكن الله سبحانه يعلم من قاتل مريم وأنا انتظر يوم الحساب الكبير أمام رب العالمين ، يوم أن تأتي مريم تجر قاتلها بيديها وتقول لله المنتقم الجبار :يارب إسأل قاتلي فيما قتلني ..' ليرمى في نار جهنم ، عندئذ يكون العدل قد تحقق وصبري لذاك اليوم عبادة'.
ودع (أمد) السيدة أمنة وتمنى لها الصبر والسلوان ، ليفتح على حدائق الألم سماء باكية ، فبأي ذنب قتلت مريم..؟ وغيرها الكثير من الأبرياء ولصالح من تحول قطاع غزة الى مسرح للقتل والحرق والاعتقال والإعاقة والحصار والدمار والحقد والكراهية؟ ربما أحزان هذه العائلات تسطر للأجيال القادمة عبر كثيرة بأن القتل ليس طريقا سهلا ، بل القتل بوابة جهنم الكبرى لمن تجرأ على دم الأبرياء والميزان الإلهي بالانتظار